‫الرئيسية‬ نسمات الحرية مساحة حرة من الجذور إلى النتائج: وعد بلفور وبنية الإبادة المستمرة ضد الفلسطينيين/ بقلم خالد ابوخرج
مساحة حرة - نسمات الحرية - ‫‫‫‏‫ساعتين مضت‬

من الجذور إلى النتائج: وعد بلفور وبنية الإبادة المستمرة ضد الفلسطينيين/ بقلم خالد ابوخرج

في الثاني من نوفمبر عام 1917، وجّه وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور رسالة قصيرة إلى اللورد روتشيلد، عُرفت لاحقًا باسم وعد بلفور. هذه الرسالة، التي لم تتجاوز سطورًا معدودة، كانت في حقيقتها لحظة تأسيس لمشروع استعماري طويل الأمد، صاغ مستقبل فلسطين على نحو دموي لا يزال يتكرر حتى اليوم.

لم يكن الوعد تصريحًا سياسيًا عابرًا، بل وثيقة تأسيسية للعنف الاستعماري في فلسطين. فهو أقرّ، بلغة استعمارية متعالية، بحق جماعة استيطانية في “وطن قومي” على أرض يسكنها شعب آخر، لم يُذكر إلا بوصفه “الطوائف غير اليهودية”. بهذا التوصيف المُقصي، حوّل الفلسطيني من فاعلٍ تاريخي إلى كائن فائض، وشرعن عملية نزع السيادة عن السكان الأصليين، لتتحول البلاد إلى فضاء مشروع إحلالي قائم على محو الوجود الفلسطيني وإعادة تشكيل الجغرافيا والهوية معًا.

من الوعد إلى النكبة: تأسيس بنية الإقصاء

تجلّت أولى نتائج هذا الوعد في النكبة عام 1948، حيث تم تهجير ما يزيد على 750 ألف فلسطيني وتدمير أكثر من 500 قرية، في عملية منظمة لا يمكن فهمها خارج السياق الذي أرساه بلفور. فالنكبة لم تكن انفجارًا مفاجئًا للصراع، بل تتويجًا لمسار بدأ منذ لحظة إعطاء الوعد، حين تحولت فلسطين إلى مختبرٍ لمشروع استعماري يرى في الأرض موردًا، وفي الشعب عائقًا.

لقد شكّل وعد بلفور الأساس النظري لما يمكن تسميته بـ”بنية الإبادة”، أي تلك المنظومة الفكرية والقانونية والسياسية التي تسمح باستمرار ممارسة العنف ضد الفلسطينيين كفعل مبرّر ومشروع. هذه البنية تتجلى في كل مرحلة من تاريخ فلسطين الحديث: من التهجير القسري، إلى الحصار، إلى تجريم المقاومة بوصفها “إرهابًا”.

غزة: استمرار الوعد في شكل إبادة بطيئة

في غزة اليوم، تتجسد هذه البنية الاستعمارية بأوضح صورها. فالحصار المفروض منذ أكثر من 17 عامًا، وما تخلله من حروب متكررة، ليس إلا نموذجًا متطورًا من الإبادة البطيئة. يتم تدمير البنية التحتية للحياة: المستشفيات، المدارس، شبكات المياه والكهرباء، ويُترك السكان في حالة دائمة من الإفقار والعزلة.

تُمارس إسرائيل ما يمكن وصفه بـ”الإبادة الإدارية” — وهي شكل من العنف المنظم الذي يُدير حياة السكان عبر التجويع، والحرمان، والتحكم بالموارد الأساسية، مع الإبقاء على مظهر قانوني يخفي جوهر الجريمة. بهذا المعنى، لا تُعتبر الإبادة في غزة حدثًا طارئًا، بل استمرارًا مباشرًا للبنية التي أسسها وعد بلفور: بنية ترى في الفلسطيني خطرًا وجوديًا يجب السيطرة عليه أو محوه.

من التاريخ إلى الحاضر: مسؤولية لم تنتهِ

بعد أكثر من قرن على صدور الوعد، ما زالت القوى التي صاغته — أو ورثت منطقه — تمارس دورها في شرعنة العنف. فالدعم الغربي اللامشروط لإسرائيل، والتغطية السياسية على جرائمها، يمثلان امتدادًا مباشرًا لوعد بلفور في صورته الحديثة: وعدٌ بالإبادة المقنّعة بلغة “التحالف” و”الاستقرار الإقليمي”.

إن مواجهة هذه الإبادة لا تقتصر على وقف الحرب فحسب، بل تتطلب تفكيك الأسس الفكرية والسياسية التي جعلت وعد بلفور ممكنًا، ومساءلة القوى التي ما زالت تكرّس نتائجه حتى اليوم. فالمأساة الفلسطينية ليست خطأً تاريخيًا قابلاً للنسيان، بل بنية استعمارية متواصلة، لا يمكن تجاوزها إلا عبر تفكيك منطقها ذاته.

من وعد بلفور إلى الإبادة في غزة، تتصل حلقات العنف بخيط واحد: الإيمان بإمكانية بناء مشروع سياسي على أنقاض شعب آخر. وما لم يُفكك هذا المنطق من جذوره، ستظل فلسطين — بكل ما تمثله من ذاكرة ومقاومة — شاهدة على فشل العالم في التعلّم من تاريخه، وعلى استمرار وعدٍ لم يكن يومًا سوى إعلانٍ بالإبادة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

20 − 17 =

‫شاهد أيضًا‬

تونس تسعى لتعزيز مكانتها كوجهة إفريقية للسياحة العلاجية عبر معرض سوسة الدولي

يحتضن المعرض الدولي بسوسة بداية من يوم الأربعاء 29 أكتوبر وإلى غاية 01 نوفمبر، الدورة الأو…